التاسع من نيسان في عامه الثالث

فالنتينا أبو عقصة                          الصفحة الرئيسية

 

 

 

أذكر هذا التاسع من نيسان في عامه الثالث ،  ليس كما أذكر الثالث من تشرين الأول يوم ميلادي .

 

كلاهما يوم ميلادي . ولكن التاسع من نيسان كان يوم موتي أيضا  .

 

يوم ميلادي يوما يخصني  ، والتاسع من نيسان فلا يمكن أن يخصني وحدي أبداً .

 

التاسع من نيسان المشؤوم ترك علامته  على جسدي أبد الحياة.

 

أن تفقد جزءا منك أو أن تكون على قدر عال من السمو بالإحساس بالآخر سيان .

 

هكذا هم الناس الذين وقفوا إلى جانبي ومنحوني طعما حلوا لحياتي الجديدة في ذات التاسع الذي كنت أموت فيه !

 

التاسع من نيسان القريب من كل تاريخ حزين ، زاد المضاعف من وجعي ، وجع ربط العمر بوجع شعبي ووجع ذكريات تشابه الأسطورة .

 

ناديت بأعلى صوتي وأنا أركض بين الجموع دون أن أميز أحدهم ، ودون أن أميز الطريق .

 

ناديت : " يامحمد ... يامحمد ... ؟  وكان هناك محمد ،  وأكثر من محمد .

 

قلت : نادر -  وقد عرفت إسمه فيما بعد .. وكنت غارقة  بدمي ، وأكثر بدموعي  - هل ساموت؟ لا أريد أن اموت . لدي أطفال . أنا أحب الحياة . خذوني سريعاً إلى المستشفى . أسرعوا. لا أريد أن أمووووووووووت ..!!

 

يوما ٌقبل ذلك االتاسع  بالضبط  زارني محمد وقال لي : "سيكون لك  دور الموت في عرس الدم للوركا .".. وافقت على الفور !

 

وقبل التاسع من نيسان ذاك بأيام ، كنت قد  أنهيت عروضا ٌ لمسرحية : لا لم يمت ،

 

لا لم يمت الذي  مات بعد التاسع من نيسان  الراحل حسين .

 

لا لم يمت مع صديقة جديدة  شاركت معها ، ماتت  هي أيضا بعد التاسع من نيسان مباشرة ً ، هي  بشرى ..

 

وهكذا أذكر كياني ملقى على سرير الموت ، غارقة في دموعي ، لا أستطيع شيئا ً ، ليس للحظة ، أو ليوم ، بل طويلا ، طويلا جدا ...

 

واليوم  ، مع عجزي المستديم ، أعرف أنني  لا يمكن أن أحمل طفلي ، أو أربط عقدي . لا يمكن أن أسرح  شعري،  أو أرفع سماعة الهاتف ،  وأشياء أخرى كثيرة . يدي التي صارت  أأقصر من الأخرى .

 

على ذلك السرير الذي تبلل بدموعي أكثر من دمي ، وحولي أسرة كثر . تجمعوا حول شاشة التلفزيون  ليصفقوا لجيشهم الذي  كان يدمر أهلي ، بيوتهم،  أطفالهم ، وكانت جنين ...

 

حين ذبحت . بكت جنين ، تعذبت ، وشردت . وكنت لا أستطيع شيئا على ذلك السرير غير البكاء .. تعلمت كيف أكره  ! حين التموا حول االتلفزيون  تضاعفت بهجتهم  وتصفيقهم لإنجازات جيشهم الجزار!

 

وماذا يدي ؟ لا بأس  يا يدي . ماذا رصاصة ؟ لا بأس رصاصة !

 

في الغرفة المجاورة – في المستشفى – حراسة على الشباب الجرحى من المخيم .

 

دخل زعيم القتلة يتمختر في بزته العسكرية  يشجع جنوده .

 

أبناء وطني  لم يزرهم أحد .

 

ويبدو أن أحدا َ لن يزورهم !

 

السخرية : نحن في مستشفيات العدو !  يقتلوننا ويسحبوننا للعلاج !

وأي علاج !

 

لن أنسى الممرضة التي إستقبلتني ، وكنت ممدة منهارة على السرير في غرفة الطوارىء .

 

سألتني  بإستهزاء وحقد   ، وهي تعلم أنني لن أستطيع الإجابة  : " لماذا أردت الذهاب إلى جنين ؟ مالكم ولجنين؟

 

الصمت كان إجابتي . الصمت والكره معا .

 

بعد أيام ،  وحين عرفت أنني لن أخرج من المستشفى قريبا ،  طلبت نقلي إلى المستشفى القريب  من مكان سكني،  لكي أكون قريبة  من أطفالي وزوجي ، الذين عانوا بقدر معاناتي وأكثر ،  وهناك  بقيت سبعة عشرة يوما ً.

 

ثم أتى الطبيب وقال  : "نأسف لا يمكن تقديم علاج أفضل . سيكون عجزك دائما" 

لم أرد أن أفهم . لم أرد أن أسمع . ولم أع ماذا كان يقصد . أربع عمليات جراحية في أسبوعين ، ويدي مشلولة الحركة والإحساس ، ماذا  ؟سأبقى هكذا ؟ هذا مستحيل !

 

وأحلامي ؟  وأطفالي ؟ وزوجي ؟ والمسرح ؟ أ لن أقف على خشبة المسرح ؟

ألف سؤال دار في تلك اللحظة في ذهني . وما كان إلا إجهاشتي  ودمعتي الصلبة .

 

لم يرى أحد اليأس على وجهي . أخفيته  . لم أبك أمام زوجي وأطفالي .

 

وكل ليلة زارتني صديقتي هند تواسيني . زارتني  عندما كان رأسي ينفجر ،. وأكاد أجن .

 

ماذا سأفعل يا صديقتي ؟ حياتي انتهت !

 

العشرات من الزوارفي المستشفى ،  من جميع الأنحاء ،  يوميا . عشرات باقات الورود . العشرات في بيت أهلي في القرية . عشرات الاتصالات  والرسائل  وعلى مدى أيام طويلة .

 

حين رن الهاتف ، وكان الاتصال  من مكتب التواصل غزة ، كانت الرسالة ا : " هذا وسام حفر على يدك ، فتشجعي" كنت أعلم المعنى  في أعماق أعماقي . إذ ماذا تعني  يدي أمام المجازر  الكبرى ؟

 

قال  طفلي الصغير  ( يمان ) ،  الذي بلغ العامين ونصف حينها: " أنت ما مت ؟ .. طخوك رصاصة كيف ما مت ؟مش الرصاصة بتموت ؟؟  "

 

حضنته ، وبكى مسترسلا بأسئلته : " هل ستعودين إلى البيت  ؟؟ "

 

ابني الأكبر( ناشد ) يراقبي والدمع عالق في مقلتيه : " أنا مش مصدق  ! "

 

ولم تنته الأسئلة ...

 

وخرجت من المستشفى بعد عشرين يوما ً .. !!

 

خرجت ليبحث زوجي عن الطب الذي يمكن أن يجعلني أفضل كما نصح احد الأطباء : " علاجك فقط في الخارج"

 

وكانت يد ي التي حملت جسرا كبيرا من الحديد تعجز تماما عن الحركة ، والإحساس ،ليس ليوم ، أو لأسبوع بل لشهورطويلة .

 

وها أنا بعد  عامين  ..... ولم تنته قصتي .

 

كان علي أن أسافر إلى بلاد الإنجليز  لإجراء عملية جراحية قد تساعد في تحسن وضعي . جراحة تكلف غاليا .

 

و لم نكن نملك منها شيئا . حتى أننا لم نكن حينها نملك أجرة المنزل .

 

العشرات من أبناء شعبي المخلصين تجندوا لتدبير المبلغ الهائل الذي تطلبه العلاج  . بل  المئات ممن  تبرعوا وشاركوا.. وكان لأصدقائي الفنانين دور، عبر  عروض مسرحية من أجل ذلك .

 

تمت الجراحة في نوفمبر لأعود بعده  بشهر إلى بيتي في حالة أفضل .

 

لن ترجع يدي كما كانت . العجز سيرافقني طوال العمر . لكن الجراحة ساعدت على التحسن بشكل جد ملحوظ.

 

مقاومتي لهذا العجز صارت  شاغلي . لن أستسلم .  واظبت في العمل مع ذهني وذاتي طويلا لأعود إلى  نشاطي.

 

واعتليت الخشبة في خلجامش  باريس في ربيع 2003 .. لأضطر إلى عملية جراحة أخرى في ذلك الصيف.

 

وبعدها قررت  النهوض بعزم .  فالعجز، المستشفيات التي لم أعهدها ، وذلك الاحتلال  لن يقهروني .

 

وها أنذا :

علي ّ أن أوصل الورد قبل انتهاء العرس.