الصفحة الرئيسية                                                                           

... فتحت عينيها في بيت قديم  ومتواضع جدا ، في حارة  الكنيسة ، بيت مؤلف من غرفة واحدة ، أثراه مكتبة كبيرة مزدحمة ، مئات الكتب  اقتناها و قرأها بعمق والدها الذي لم ينه صفه الرابع . كتب لن تجد اليوم معظمها .كبرت لتجد أمامها أبا مشبعا بعقل الحكماء والفلاسفة وعمالقة الكتاب  من ماركس وإنجلز ، مكسيم غوركي ، هشام شرابي ، نوال السعداوي ، إحسان عبد القدوس ، غسان كنفاني ، محمود درويش  وعشرات آخرون ... وكان قبل ولادتها قد لبس بدلة الجيش الكاكية هروبا من العوز و الفقر ليخلعها بعد فترة وجيزة مدركا ما وجده في الكتب ...  كبرت وهي ترى والدها على الدوام يقرأ جريدة الاتحاد، يصطحبها لإجتماعات الحزب ومؤتمراته منذ كانت  طفلة في الرابعة من عمرها ، إعتلت المنصات تغني " انا في الغرب زنجية وفي عمان فلسطينية  وهنا عربية  والراية الحمرا شيوعية ".

 

كبرت لأم  عاملة وبشقاء تساند الأب  لتوفر لقمة العيش الكريمة   ،الملبس وفرصة التعلم . في حارة سيطرت عليها كل ما يمكن من التناقضات ، ما بين  ذلك  الأب ومكتبته المكتظة بالشيوعية،التمرد ، الثورة ومعاني الحرية والقيم الإنسانية ،  وبين أصوات الصلوات وأجراس الكنيسة الملاصقة تماما للمنزل . لأم حملت الكتاب المقدس في معارك  أنزلت  فيها .صور ماركس وإنجلز وعبد الناصر عن الحائط أحيانا .

 

كبرت وترعرعت في بيت ناصره  في التفكير يومها قلائل  في القرية , وأطلق عليهم حينها -الكفار-

 

وها هي تكبر رويدا رويدا  فـتأخذ من أبيها،  تلتهم الكتب منذ صغرها تتعلم الحديث والكتابة ، تتعلم الشراسة في الموقف ، تتعلم الدفاع عن وجودها إنسانيتها ، وعن الآخرين  تحمل عبئا ثقيلا يربطها في قصص ومآسي شعبها قرأت واقعهم  في الكتب والأشعار  وأدركت وجودها من معاناتهم ، ترعرعت عصامية تعشق الحرية بإدراك وجرأة  .

 

تكبر وتأخذ من أمها النشاط والعمل الدؤوب، المثابرة تعلم  القفز عن الفقر والحرمان فخرجت إلى  العمل في الأرض  في العطل منذ كانت في الثامنة  من عمرها ، صباحا مع الفجر فتعود مع بعض النقود في قمة الفرح

 

كانت ترافقها في هذا كله شقيقتها التي تصغرها عامين . اليوم هي الكاتبة الرائعة والمحاضرة د. سهير أبو عقصة داوود.

 

ثم كان  لها إخوتها ،   لونا  ، عبور ، وطارق . 

 

متمردة وثائرة  منذ صغرها حفظت معظم  كتب  محمود ومعين بسيسو ونزار قباني وألقتها في  المدرسة ، مدرسة ثارت عليها  فحكت ما آمنت طوال الوقت رافضة الاحتفال بيوم الإستقلال والإنشاد له ولم يردعها غضب وتوبيخ المعلمين والمدير   ، حتى كتبت وقدمت المشاهد المسرحية وتحدثت أحيانا خلسة  لأبناء جيلها عن فحوى الكتب التي تقرأها .

 

صفعتها معلمتها  صفعة  قوية وأمام أولاد الصف حين كانت في الصف الرابع  علمت فيها عميقا حين لم تكن قد حضرت وظيفتها البيتية وقد وجدت  معلمتها في جيب قميصها ألأزرق رزمة من الأوراق الإنتخابية تألق  عليها حرف  - و- باللون  الأحمر  الجميل . فقد إنشغلت تلك الطفلة بالأمس في تحضير الطعام ونقله إلى الرفاق .

 

عشقت العلم الأحمر وعرفت  أن علمها ذات الألوان الأربعة محظور وكأنه إلى يوم القيامة  فغنت له ورسمته خلسة بين طيات الكتب والدفاتر.

 

في العاشرة من عمرها افاقت ليلا في مهمة كبيرة وبريئة فتخرج من البيت وترسم بالفحم وبالخط الكبير م.ت.ف.

 

أثار هذا قلق والدها عليها في صبيحة اليوم التالي مدركا تماما ، من يكون غير تلك الصغيرة  الشقية المتحمسة والغاضبة  فأسرعوا في إزالتها .

 

في الخامسة عشرة من عمرها وحين اشتد ساعداها فتهيأت  لتحمل العلم الأحمر الكبير  لأول مرة في مسيرة قطرية بمناسبة عيد العمال فتزينت بالربطة الحمراء مسافرة بسعادة  غامرة وبشعور لا يمكن وصفه من المسؤولية والتباهي في تحقيق حلم الطفولة  لحمل ذلك العلم ثقيل الوزن حتى وصلت إلى التجمع القطري ليفاجأها القائد هناك وهو يمد لها العلم الإسرائيلي وبالحجم الكبير ...

 

"مستحيل ؟؟ " رفضت بكل عناد قائلة :جئت لأحمل العلم الأحمر هذا ليس علمنا ؟؟

 

ولأنها خالفت الأوامر  وامتنعت عن الاعتذار  مُنعت من المشاركة بعدها بكل النشاطات ومنعت من البطاقة الحمراء .

 

ذهبت إلى  المحاضرات والإجتماعات العامة ، تسأل وتتسائل ، تناقش ، وتستفسر ، وتعارك ، وتنتقد ، تجادل وتطلب الإقناع والحجة وكان مخزونها وثروتها اكبر بكثير مما توقعه الآخرون

 

وكانت الرفيقة التي لم تكن بحاجة إلى إطار  أو بطاقة يدعم هذا المعنى فهو ، الإيمان والعمل والصدق والصداقة والوفاء  كما قالت وفعلت .

 

ثابرت في الدفاع عن كيانها وواصلت نشر قصائدها وإلقائها في والاحتفالات  والمناسبات وطلبها لذلك عدد من الأطياف   السياسة الوطنية .

 

كبرت، وها هي تنتفل إلى مرحلة الثانوية في بلد غير بلدها مدرسة إجتمع فيها عدد كبير من الطلاب من تسعة قرى مجاورة فتطرد من المدرسة عائدة إلى المنزل في أول أسبوع ! حين وصفتهم بالخونة.

 

فقد حاججت وناقشت زملائها عن خدمة الطائفة الدرزية في الجيش ! فبلغوا عنها للإدارة وطردت.

 

اضطر والدها للذهاب إلى المدرسة محرجا ، فهي لم تعد الطفلة التي عذرها عن تصرفاتها الشقية والبريئة ، الآن  عليها أن تتحلى بالحكمة والتروي في نقاش الأمور ومعالجتها ، وكيفية  والتعامل مع الآخر .

 

فعلا لقد آلمها إحراج أبيها في هذا الموقف فحبها ، احترامها ، وتقديرها له هو الحاسم في ذلك الموقف .

 

شكلت  هذه الحادثة نقطة تحول هامة في الوعي والنضوج جعلتها ودون تخاذل وبحنكة ولباقة تتعلم الريادة والقيادة ، تستقطب أصوات زملائها فتكون عضوا في مجلس الطلاب ولم يكن سهلا فإنها  منافسة في مدرسة كبيرة ومتنوعة  بحاجة إلى إجماع زملائها نجحت وبعد تلك الحادثة بقليل ، جذبتهم أفكارها ، جرأتها ، قناعاتها ، كتاباتها مشروعها اجتهادها ، لتكون في العام الذي يليه أول طالبة ترأس مجلس المدرسة ، وكانت  رفيقتها على مقعد الدراسة لثلاثة أعوام من الطائفة الدرزية وأحد أصدقائها المقربين والذي شاركها الأفكار من الطائفة الدرزية وعلمت فيما بعد أنه رفض الخدمة الإلزامية في الجيش وسجن . 

 

وقلبت  مع أصدقاء مخلصين أجواء عديدة في المدرسة ولأول مرة يقام يوم  احتفالي بالتراث الفلسطيني .

 

وعلى مدى نشاطها بالمدرسة كان معنى ليوم الأرض  ومعنى ليوم الطالب ... فقرأت قصائدها و قصائد محمود دروش....

 

تمازجت فطرتها ذكائها ومواهبها ومجمل تجاربها و مخزونها تربيتها لتجعلها  متفردة متميزة وفي مراحل نضوجها هي تنجح وتتقدم وتدرس نفسها تستفيد من تجاربها وتجارب الآخرين دون أن تتغير ملامحها ، ملامح القوية العنيدة  الصلبة والمدركة تماما لما تريد .

 

فضلت  المسرح على  الرسم والكتابة والتي كانت تجيدهما  لتشد رحالها من القرية إلى ذلك العالم الواسع عالم المسرح لا تعرف أين سيأخذها  طموحها  فأخذته هي متحصنة بوعي وإدراك وحرية هي أسلحة واجهت فيها كل الصعاب والعقبات في ذاك الوقت شديد التحفظ  كثير الغموض لصبية تخرج من أقصى الشمال إلى قدس إندلعت فيها الإنتفاضة الشعبية الأولى ريثما خطت خطوتها ألأولى  في أرضها. وهي قاصدة فرقة الحكواتي _ حلم طفولتها  -

 

هي تقرر أن تغادر  إلى هناك بعد عام دراسي لفن التمثيل والمسرح في تل أبيب .

 

وكان اعتلائها منصة الحكواتي بكل تفرد لأول مرة قفزة نوعية لوجودها كممثلة بارعة بشهادة كبار الفنانين على تنوعهم وخبراتهم وبشهادة الجمهور الذي تسائل من أين أتيتم بهذه الممثلة العظيمة . فحظيت بالإجماع بكامل  الإحترام والتقدير.

 

الحقيقة انها أتت وحدها فقد عرفت الطريق .

 

ورغم  شدة الإنتفاضة ، وقسوة الظروف   التي أعادت كثيرون ممن استقروا هناك سنوات طويلة إلى الشمال بقيت هناك تواصل طريقها .

 

أروع أيام الانتفاضة الأولى، حين أقامت ورشات المسرح للأطفال ضمن اللجان الشعبة في القدس ورام الله والبيرة ، وشاركت أصدقائها  وزملائها حياتهم اليومية في السراء والضراء تنقلت معهم في مخاطر منع التجول ، وإطلاق الرصاص ، المظاهرات . وبقيت هناك .. هناك تعارفت وصادقت وبنت لها كيانا حصينا  ، مشرفا ، ومحترما ، وتربطها علاقات صداقة وزمالة على مستوى كبير من الإحترام والتقدير .

 

وكانت عضوا فاعلا ونشطا في الحركة المسرحية الفلسطينية وفي تأسيس رابطة المسرحيين .

 

ومع صديقها وهو  صديق  لأعضاء فرقة صابرين المقدسية ومتطوع جابت معه لبيع تسجيلات الشيخ إمام وقصائد مظفر النواب وفيروز وأغاني فرقة العاشقين في مساكن وفعاليات الطلاب  في الجامعات داخل مناطق 48. على مدى أشهر طويلة .

 

هذا الصديق الذي أحبها  فأحبته  هو زوجها  الآن، وهناك في القدس في اجواء الإنتفاضة الخالدة تزوجا بمراسم متواضعة جدا . وهناك أنجبت إبنها  البكر ناشد  واستقروا   10 أعوام في القدس ورام الله .

 

وليعتاش الصديقان وقبل الزواج بادروا بكل عصامية واستقلال بعمل خاص في مجال الدعاية والإعلان  وكانوا السباقين في هذا المجال ولما لم يكن لهم لا من قريب أو بعيد في دنيا المال والأعمال ذاقوا الأمرين فانتكسوا أحيانا وتورطوا أحيانا أخرى فحوربوا وهم أسماك بين حيتان ، ولأنهم لم يعرفوا اليأس ، ولأنهم أتوا من مكان لا يعرف الخداع والكذب  متسلحين بالصدق محاربين للفساد والتبعية قهروا صعابا باتت  شبه قاتلة وبكفاح وعناد ومثابرة وبثقة ومساندة الشرفاء حولهم . تعتبر  اليوم شركتهم من الشركات الأولى الهامة و الرائدة في هذا ا المجال .  

 

كانت أوسلو وسنواتها الأولى نقطة تحول أخرى في حياتها فانتقلت مع زوجها وطفلها ناشد ابن السادسة آنذاك للاستقرار في مدينة حيفا وفي حيفا أنجبت إبنها الثاني يمان .

ومن هناك تكمل رحلتها في المسرح والسينما والكتابة والتمرد ومحاربة الفساد على أشكاله وأنواعة في إيمان منها أن دورها على الخشبة لا ينفصل عن دورها على الأرض ومن بين هذه الأدوار دورها في النضال الذي علم على يدها اليسرى برصاصة جندي الإحتلال، سبب لها إعاقة مستديمة بينما كانت مع آخرون كثر هبوا  لمساندة الأهل في مخيم جنين وقت إجتياحه.